يزخر تاريخ شركة IBM بالكثير من القصص والروايات عن المشاكل افتعلتها مع الآخرين, فقد كانت سياسة هذه الشركة الأساسية في جني الأرباح هي الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من الزبائن مهما كلفها ذلك من مواجهات مع الشركات الأخرى. ولنكون أكثر امانة، فقد اتبعت غالبية شركات تقنية المعلومات في تلك الفترة السياسة ذاتها, وما زال بعضها يقوم بذلك حتى يومنا هذا! ولكن عندما طورت IBM الحاسوب الشخصي فقد قامت (دون عمد) بفتح تقنيته وإتاحتها للجميع ليقوم من شاء باستنساخها. هذا العمل بالتحديد كان المحرك الأساسي لإشعال ثورة الحواسيب الشخصية، والتي قامت بدورها بإشعال ثورة المعلومات، ثورة الإنترنت، الاقتصاد الجديد- أو باختصار كل ما قد نعتبره تغيراً هائلاً يحصل في أصقاع العالم ..
هذا المثال يوضح بشكل كبير المزايا اللامحدودة التي يمكن أن نجنيها من فلسفة المصادر المفتوحة. فعلى الرغم من أن الحواسيب الشخصية لم تتطور تبعاً لنموذج تطوير المصادر المفتوحة، إلا أنها تعتبر مثالاً لتقنية مفتوحة أتيح لأي شخص أو شركة استنساخها وتطويرها وبيعها. يتيح نموذج تطوير المصادر المفتوحة في أوضح أشكاله لأي شخص أن يساهم في تطوير مشروع ما أو استثماره تجارياً. ويتضح جلياً أن لينكس يشكل المثال الأفضل لما نحن بصدده الآن, فالبرنامج الذي تم تطويره في غرفة نومي الفوضوية في هلسنكي قد نمى ليصبح أكبر مشروع تعاوني مشترك في تاريخ البشرية.
لقد بدأت هذه الحركة كفكرة مشتركة بين مطوري البرمجيات المؤمنين بضرورة إتاحة الشيفرة المصدرية للبرامج الحاسوبية بحرية مطلقة، متخذين من رخصة الاستخدام العمومية General Public License ـ (GPL) أداتهم الفاعلة.
تطورت هذه الفكرة لتصبح وسيلة التطوير المستمر لأفضل التقنيات، ومن ثم تطورت لتحظى بقبول واسع النطاق في أسواق العالم، وهو تماماً ما حصل في الأثر المشابه لتضخم كرة الثلج في اعتماد نظام التشغيل لينكس في مخدمات الوب غبر العالم، وفي العوائد السخية التي حققها للشركات التي أخذت زمام البادرة وتبنت لينكس كالمصدر الأساسي لجني الأرباح.
إن ما بدأ كفكرة أثبت نجاعته كتقنية ونجح في الأسواق التنافسية في العالم. والآن تتطور المصادر المفتوحة إلى ما وراء النواحي التقنية والتجارية، حيث يقوم البروفيسور لاري ليسيغ وتشارلز نيسون في جامعة هارفارد للقانون بنقل فلسفة المصادر المفتوحة إلى عالم القانون عندما أطلقا مشروع القانون المفتوح Open Law Project والذي يعتمد على متطوعين حقوقيين وطلاب في كليات الحقوق بإرسال الأبحاث والآراء إلى موقع المشروع على الإنترنت للمساهمة في تطوير المرافعات والإعتراضات على مشروع الولايات المتحدة لتوسيع حقوق الملكية الفكرية. الفكرة الأساسية وراء المشروع تكمن في أن أكثر المرافعات قوة ستتطور عبر مساهمة أكبر قدر ممكن من المفكرين الحقوقيين في هذا المشروع، إضافة إلى تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات عبر مساهمات هؤلاء المفكرين ضمن الموقع. يحاول هذا الموقع بيان المحور الأساسي الذي يميزه عن الأسلوب التقليدي:
"سنتوقع أن نعوض ما سنخسره نتيجة التخلي عن السرية في أعمالنا بما سنحصل عليه من قوة في المرافعة وعمق في مصادر المعلومات"..
(أو بمعني آخر: بوجود مليون مراقب ستختفي مشاكل البرمجيات بسرعة فائقة).
ويصح طبعاً تطبيق ذلك على أساليب إجراء البحث العلمي منذ القدم، وعلى أكثر من جانب، لنتخيل مثلاً كيف يمكننا هذا الأسلوب من تسريع تطوير علاجات الأمراض، أو كيف يمكن عبر استثمار أفضل المفكرين أن تتطور السياسية الدولية. مع تحول العالم أكثر فأكثر إلى قرية صغيرة فإن إيقاع الحياة والعمل سيزداد كثافة، ومع توافر التقنية والمعلومات سيجد الناس أكثر فأكثر أن الأسلوب التقليدي في إخفاء المعلومات آخذ في التلاشي وبسرعة فائقة.
إن النظرية الكامنة وراء فلسفة المصادر بسيطة للغاية، ففي حالة نظام التشغيل فإن الشيفرة المصدرية – مجموعة التعليمات البرمجية التي تشكل هذا النظام – متاحة بحرية، وبإمكان أي كان تطويرها أو تعديلها أو استثمارها. ولكن هذه التطويرات والتعديلات يجب أن تتاح أيضاً بحرية للآخرين. أي أن المشاريع في عالم المصادر المفتوحة ليست ملكاً لأحد وفي نفس الوقت ملك للجميع، عندما يتم إطلاق مشروع ما يستقطب هذا المشروع الكثير من جهود التطوير والتحديث، ومع إسهام العديد من فرق المطورين في العمل بالتوازي فإن النتائج ستتحقق بسرعة أكبر ونجاح أفضل فيما لو تم هذا التطوير وراء أبوب موصدة.
وهو بالتمام ما شهدناه في لينكس، تخيل أنه عوضاً عن وجود فريق تطوير صغير منغلق يعمل بالسر فإنك يملك جيشاً مؤلفاً من الملايين من أفضل الأدمغة حول العالم يسهمون في تطوير مشروع ما، ويقومون على الدوام بمراجعة مساهمات بعضهم بعضاً ضمن آلية لا مثيل لها.
يتعجب معظم الناس عند سماعهم عن فلسفة المصادر المفتوحة للمرة الأولى، وهو ما تعزى إليه على الأغلب السنوات التي تطلبها انتشار هذه الرسالة على ما هي عليه الآن. من المؤكد أن المصادر المفتوحة لم تنتشر بسبب الفكرة المجردة لذاتها، فقد بدأت المصادر المفتوحة بلفت الانتباه عندما أصبح جلياً بأنها الطريقة الأمثل لتطوير أعلى نوعيات التقانة. والآن نشهد انتشار المصادر المفتوحة في عالم الأعمال أيضاً (وهو ما ساهم أيضاً بدوره في توسيع قاعدة تقبل المصادر المفتوحة) فقد أنشئت شركات عدة بالاعتماد على خدمات القيمة المضافة المتاحة في فلسفة المصادر المفتوحة، أو عبر الاعتماد على المصادر المفتوحة كوسيلة لزيادة شعبة تقنية ما. عندما يتحدث المال، يقتنع الناس!
من أكثر جزئيات فلسفة المصادر المفتوحة جدلاً التساؤل الذي يطرحه الكثيرون: ما الذي يدعو هذا العدد الهائل من المبرمجين الموهوبين للعمل دون مقابل؟ وهنا لا بد لنا من ذكر مفهوم (الحوافز)، ففي مجتمع يعتبر فيه تأمين الحاجات الأساسية للإنسان مضموناً إلى حد ما، فإن المال يفقد قيمته كأكثر الحوافز أهمية، ومن المعروف أن الإنسان يعطي أفضل ما لديه عندما يكون مدفوعاً بهاجس تحقيق حلم ما، عندما يحصل على المتعة الحقيقية. وهو ما ينطبق على مهندسي البرمجيات كما ينطبق على الفنانين والنحاتين والمبدعين. تتيح فلسفة المصادر المفتوحة للناس أن يعيشوا أحلامهم، أن يحصوا على المتعة الحقيقية التي يبتغون، وأن يعملوا مع أفضل المبرمجين في العالم، وليس فقط تلك القلة التي حصل وتم توظيفها ضمن الشركة التي يعملون فيها. يعمل مطوروا المصادر المفتوحة جاهدين لكسب احترام نظرائهم، وهو ما أثبت أنه من أكثر الحوافز الإنسانية فاعليةً.
يبدو أن بيل غيتس لم يتمكن من فهم هذه الفكرة، ومن الجائز أنه خجل الآن من سؤال أدلى به في عام 1976 عندما تساءل في رسالة إلى مطوري برمجيات المصادر المفتوحة: "أي أنك ستحول دون تطوير برمجيات جيدة، من يستطيع العمل بشكل محترف دون مقابل؟".
في الحقيقة، يمكننا فهم فلسفة المصادر المفتوحة بالعودة إلى الكيفية التي تعاملت بها الديانات مع العلوم منذ عدة قرون خلت، فقد نظر بعض رجال الدين إلى العلوم ككائن خطر ومضاد للمنظومة – تماماً كما تنظر بعض شركات صناعة البرمجيات أحياناً إلى المصادر المفتوحة. وكما أن العلوم لم تهدف يوماً إلى التقليل من شأن المنظومات الدينية، فإن المصادر المفتوحة لم تتطور بغاية أذية منظومة تطوير البرمجيات، لقد تطورت لإنتاج أفضل تقنية، وهو هدفها الأساس حتى يومنا هذا.
لا تنتج العلوم بحد ذاتها أموالاً، بل كانت (وما زالت) الآثار الجانبية لهذه العلوم المصدر لثروات العالم، والأمر نفسه ينطبق على المصادر المفتوحة، فهي تتيح بناء صناعات ثانوية تتحدى الشركات الحالية، تجد مثلاً شركات صغيرة مثل VA Linux تستثمر فلسفة المصادر المفتوحة لتصبح فجأة قادرة على منافسة كبريات الشركات التقليدية، مطبقين ما قاله قال السير إسحق نيوتن: (بالوقوف على أكتاف العمالقة).
وكلما ازداد انتشار المصادر المفتوحة في الاقتصاد العالمي، وكلما تعاظمت سمعة مطوريها، كلما ازدادت قيمة هؤلاء المطورين في سوق التوظيف.
عادة ما تبحث الشركات ضمن قوائم المطورين المرفقة مع برمجيات المصادر المفتوحة لتحديد أكثر المساهمين نشاطاً لتوعز فيما بعد إلى قسم إدارة الموارد البشرية لديها لإغراء هؤلاء للعمل لديهم بشتى الوسائل. وقد قلت في فقرة سابقة بأن المال قد يفقد قيمته كحافز أساسي، وأنا ما زلت عند كلامي، ولكنني سأقول بأن المال ليس بحد ذاته سيئاً فيما لو حصلت عليه مقابل العمل الجاد. وتبدو أهميته جلية عندما أضطر مثلاً لملء سيارتي ال BMW بالوقود!
وكما في العلوم، فإن الآثار الجانبية للمصادر المفتوحة غير محدودة، فهي تبني أشياء كانت تعتبر حتى عهد قريب مستحيلة، وتفتح آفاق أسواق جديدة لم نكن حتى لنتنبأ بوجودها! مع لينكس، كما في جميع مشاريع البرمجيات مفتوحة المصدر الأخرى، تستطيع الشركات بناء اصداراتها الخاصة وتعديلاتها الخاصة، وهو ما يعتبر مستحيلاً بأية طريقة أخرى. من الممتع أن نلحظ أن جميع ما قد تم عمله باستخدام لينكس تقريباً لم يكن متوقعاً حتى في أبعد تقديراتنا عندما بدأنا. لينكس الآن يشهد انتشاراً منقطع النظير في الصين، في السابق، غالباً ما كان يقتصر تطوير البرمجيات في آسيا على ترجمة البرمجيات الأوروبية أو الأمريكية، أما الآن يقوم أصدقاؤنا في تلك البقعة من العالم باستخدام لينكس لتطوير برمجياتهم الخاصة. وأنا فخور بالفعل بالشخص الذي اقترب مني في معرض كومدكس ليريني مضخة وقود تعمل بنظام التشغيل لينكس لأنه أراد أن يضمنها متصفحاً للإنترنت ليستطيع الزبائن تصفح موقع CNN.com مثلاً أثناء الدقائق التي سينتظرون خلالها ملء خزانات سياراتهم بالوقود. الوقوف على أكتاف العمالقة!
من المشجع أن نجد أناساً يستخدمون تقنيات مثل لينكس لمجرد بناء مضخة وقود أفضل، ومن المؤكد أن إبداعاً بهذا الشكل ما كان ليرى النور فيما لو كان لينكس نظاماً مغلقاً، فإذا ما كنت تملك شركة تقوم بتسويق لينكس فإنك على الأرجح ستسلك الطريق البديهي والذي يشكل حالياً سوق المخدمات أو محطات العمل المتطورة. أما المصادر المفتوحة عامةً فإنها تتيح للشركات اتخاذ قراراتها الخاصة فيما يتعلق بما يريدون عمله. ولذلك فإننا نجد لينكس في الأجهزة المدمجة، ونجد أجهزة مثل Tivo تستخدم لينكس، Web Slate من ترانسميتا (وهي الشركة التي يعمل فيها لينوس حالياً) والأنظمة الهاتفية تعمل بلينكس. ولذلك فإننا نلحظ ثروات تقدر ببلايين الدولارات نتجت عن استثمار المصادر المفتوحة.
وذلك يشبه ترك الأرض تعتني بنفسها, فإذا لم نتحكم في التقنية فإننا نزيل الحدود أمام استخداماتها, فبإتاحة التقنية نتيح للأشخاص اتخاذ قراراتهم الخاصة – لاستخدامها كمنصة إطلاق لمنتجاتهم وخدماتهم. وعلى الرغم من أن غالبية هذه القرارات ليست ذات شأن في المفهوم الأوسع للأشياء، إلا أنها بالتأكيد تعمل بشكل جيد. وهذا يعني أن لا نحاول نشر لينكس، بل أن نجعله متاحاً وندعه ينشر نفسه بنفسه. ما نقوله لا ينطبق على لينكس وحسب، بل على أي مشروع مفتوح.
ستنجح المصادر المفتوحة ..
لا أحد يناقش أهمية حرية التعبير, فهي حرية بذل الكثيرون دماءهم ثمناً لها, فالحرية دوما أمر ثمين عليك أن تدافع عنه بحياتك، ولكنها أيضاً ليست بالخيار السهل للوهلة الأولى. وكذلك الأمر بالنسبة للمصادر المفتوحة، عليك أن تتخذ القرار بأن تتبنى هذه الفلسفة، وهو ما قد يبدو صعباً للغاية لأول وهلة، ولكنه سيجعلك أكثر ثباتاً في النهاية.
لنفكر قليلاً بالسياسة، إذا تم استخدام نفس المنطق المستخدم في مواجهة المصادر المفتوحة في الشؤون الحكومية علينا إذاً أن نتقبل دوماً حكم الحزب الواحد. من المؤكد أن حكم الحزب الواحد أبسط بكثير من التعددية الحزبية في النظام السياسي المفتوح المتبع في معظم دول العالم, ففي نظام الحزب الواحد لن نعاني من مشاكل التفاهم مع الأطراف الأخرى، بدعوى أن أوقات الحكومة أكثر أهمية من أن تنفق على جدالات يفرضها النظام السياسي المفتوح. ولسبب مجهول يؤمن البعض بضرورة تطبيق هذه المبادئ في عالم السياسة والحكومة، ويرفضونها في عالم الأعمال.
تملك معظم الشركات ذخيرة من المبررات التي تدعي بموجبها أنها غير قادرة على إتاحة تقنياتها، بعضها مقنع، كأن تقول لك الإدارة: لا تجري الأمور هكذا عادة! هذا الأمر مخيف للغاية، فالناس يخافون التغيير، ويعود ذلك جزئياً إلى جهلهم بنتيجة هذا التغيير، وغالبية الشركات تفضل الاصطفاف في مؤخرة طابور الانتظار مقنعة نفسها أنها بذلك ستتخذ قرارات أكثر حكمة حول وجهتها المستقبلية، وأحياناً يبدو ذلك أكثر أهمية من أن تحقق الشركة نجاحاً مبهراً. هذه هي الشركات التي من الممكن أن تصبح ناجحة عوضاً عن أن تكون من الممكن أن تصبح فعلاً، فعلاً، فعلاً ناجحة!
إن اتخاذ قرار بتحويل منتج ما إلى منتج مفتوح المصدر ليس بالأمر السهل مطلقاً، فهناك الكثير من الأمور المعقدة، فقد قامت الشركة خلال الأشهر أو السنوات التي استغرقها تطوير هذا المنتج ببناء كم هائل من المعرفة ضمن الشركة، هذه الملكية الفكرية تعتبر حجر الأساس في إيرادات الشركة المستقبلية، ولن تقوم الشركة بأي حال بالاستغناء عن هذه الملكية الفكرية التي تبقيها على قيد الحياة. ولكن وجود هذه المعرفة ضمن الشركة يبني حواجزاً في وجه الآخرين، فهو يمنع الأشخاص من خارج الشركة من المساهمة في تطوير هذه المعرفة.
إلا أنني شهدت شركات تتحول من منتجات مغلقة إلى منتجات مفتوحة المصدر، هناك على سبيل المثال شركة Wapit الفنلندية التي تقوم بتوفير خدمات ودعم البنية التحتية للعديد من أجهزة الاتصال التفاعلية. يتمحور هذا المشروع حول مخدم الوب المشابه لجهاز الهاتف الحائطي والذي تنتجه الشركة. من وجهة نظر الشركة فإن إتاحة برمجياتها ضمن مفهوم المصادر المفتوحة كان القرار السليم، فالشركة تريد بناء خدماتها، ولكن في سبيل ذلك عليها بناء بنيتها التحتية أولاً، وهو ما سيتطلب كتابة الكثير من البرمجيات. ولذلك، وعوضاً أن تنظر الشركة إلى هذا القرار باعتباره إتاحة لملكيتها الفكرية للآخرين، نظرت إليه من وجهة النظر التالية: سيستهلك تطوير البرمجيات التي سنحتاجها الكثير من وقت مهندسينا، ولكنه في النهاية لن يضيف أية قيمة فيما لو احتفظنا به ضمن الشركة.
لقد ساعدت عدة عوامل Wapit على اتخاذ قرارها، فالمشروع لم يكن مشروعاًً ضخماً للغاية، كما أن قرار التحول إلى المصادر المفتوحة اتخذ في مرحلة مبكرة من حياة الشركة. وقد صرحت إدراة الشركة أنها تملك جميع الموارد اللازمة لتطوير منتجها، ولكنها كانت تطمح إلى تطوير شيء أكثر شأناً من ذلك الذي يمكن تطويره ضمن الشركة. كما اعتبرت أن استخدام فلسفة تطوير المصادر المفتوحة سيتيح استخدام تقنية WAP كمعيار يستثمره الآخرون أيضاً.
منذ البدء، استشارتني الشركة بهذا الخصوص وأجبتهم أن عليهم في البداية أن يتجنبوا اتخاذ قراراتهم داخلياً ضمن الشركة فقط، واقترحت عليهم أنه في حال قاموا بعقد اجتماعات لاتخاذ القرار فإن هذه الاجتماعات لا ينبغي أن تكون مغلقة في وجه الآخرين من خارج الشركة. فإذا اعتبرت الشركة اجراءات اتخاذ القرار أمراً خاصاً بالشركة وحدها فإنها ستخاطر باستبعاد الآخرين، والذين قد لا يغفروا للشركة هذا الأسلوب من التعامل.وتعتبر هذه المشكلة من أهم المشاكل التي تواجه إطلاق واعتماد مشروع مفتوح المصدر في بيئة تجارية، من السهل أن نتشدق بعبارات تبدي دعمنا للمصادر المفتوحة، ولكن ذلك قد يقسم المجتمع دون قصد إلى جزئين: نحن في مواجهة هم. يتم اتخاذ العديد من القرارات بسهولة، أثناء الجلوس حول طاولة المقهى ومناقشة الخيارات المتاحة دون إتاحة هذا النوع من الحوار للأشخاص خارج الشركة. وبذلك نكون قد حرمنا الأشخاص خارج الشركة والذين غالباً ما قد يملكون آراءً ذات شأن من حقهم في التصويت لمجرد اتخاذنا لقراراتنا على طاولة المقهى!
لقد كانت هذه المشكلة إحدى المشاكل التي أربكت نتسكيب Netscape في الأشهر التي تلت قرار الشركة الصعب في عام 1998 بإتاحة الشيفرة المصدرية (والتي أسميت موزيلا Mozilla) للإصدار الجديد من متصفح الإنترنت الخاص بها. فقد استغرق وصول المشروع إلى الصيغة التي كان من الممكن أن تعتبر بحق مفتوحة المصدر الكثير من الزمن. فقد وجد معسكر ضمن نتسكيب يرفض إضافة أية تطويرات خارجية إلى المتصفح، فالجميع ضمن الشركة يعرف بعضهم بعضاً، وفي حال لم يكونوا جالسين إلى طاولة في المقهى يتخذون قراراتهم فإنهم غالباً ما كانوا يتجمعون في المقهى(الإفتراضي) والذي يهدف بشكل رئيس إلى الحفاظ على التواصل بين أعضاء الفريق. وعوضاً من استثمار أول تجربة عظيمة في إتاحة الشيفرة المصدرية لمنتج تجاري فإن نتسكيب حصلت في المقابل على عدة تغطيات صحفية سلبية لتجربتها. وعندما بدأ الكلام يتزايد عن احتمال فشل هذه التجربة، لم تعد نتسكيب قادرة على التحمل مما ساعد في جعلها أكثر انفتاحاً على الخارج وهو ما أدى بدوره إلى تحريك المشروع ليصل إلى صيغته الديناميكية الحالية.
عندما سمع الناس للمرة الأولى باحتمال إتاحة الشيفرة المصدرية لمنتج تجاري بدأوا يطرحون الأسئلة ذاتها: كيف سيتحمل الأشخاص ضمن الشركة حقيقة أن شخصاً ما من خارج الشركة سيقوم بإنجاز عمل ما بشكل أفضل من عملهم هم؟ وخصوصاً ضمن الانتشار الواسع لهذه المعلومات كونها مفتوحة المصدر؟ أعتقد أن عليهم أن يشعروا بالسعادة لذلك، وخصوصاً أنهم يحصلون على رواتبهم دون القيام بمعظم العمل. وفي هذا السياق فإن المصادر المفتوحة – أو أي شيء مفتوح – لن يرحم أحداً، فهو يظهر بوضوح من يستطيع إنجاز العمل ومن هو الأفضل! لم يعد بمقدور أحد أن يحتمي بمدرائه بعد اليوم!
تعتبر المصادر المفتوحة أفضل وسيلة لاستثمار المواهب الخارجية، ولكن الشركة ما زالت بحاجة إلى شخص ما في الداخل لمتابعة احتياجات ومتطلبات الشركة، ولا ينبغي أن يكون هذا الشخص بالضرورة مدير المشروع، عملياً، من الأفضل للشركة أن يقوم شخص من خارجها بهذه المهمة مجاناً. جيد أن يقوم شخص ما من خارج الشركة بعمل أفضل، وكلن المشكلة تكمن في أن هذا الشخص قد يقود المشروع في اتجاه لا يتوافق ومتطلبات الشركة، ولذلك ينبغي أن تعتني الشركة بمتطلباتها الخاصة. قد تسمح إتاحة المشروع للشركة بتخفيض مواردها الخاصة، ولكن ذلك لا يعني أنها ستستطيع التخلص منهم نهائياً. قد ينمو المشروع ليصبح أكبر بكثير من أن تقوم به شركة واحدة. إن وجود الموارد الخارجية يسمح ببناء نظام أرخص، أكثر كمالاً وأكثر توازناً، ولكن تبقى المشكلة: النظام الذي نمى بقوة لا يأخذ بعين الاعتبار متطلبات الشركة وحسب، بل قد يأخذ بعين الاعتبار أيضاً متطلبات الزبائن.
قد يكون أكثر الأمور صعوبة في هذا السياق هو التخلي عن التحكم وقبول حقيقة أن أشخاصاً من خارج الشركة قد يملكون معلومات أفضل، من الصعوبات الأخرى أيضاً إيجاد قائد تقني ضمن الشركة لتوجيه المشروع، هذا القائد يجب أن يتمتع بثقة الجميع على المستويين: التقني والسياسي، كما ينبغي أن يكون قادراً أحياناً على الاعتراف بأن المشروع لم يكن قراراً صائباً منذ البداية، وعوضاً عن محاولة التهرب من الحقائق، أن يكون قادراً على إقناع الجميع بأن القرار الأصح هو العودة والبدء إلى نقطة البداية والبدء من جديد، وهو ما قد يعني التخلي عن أشياء تم إنجازها، ما قد لا يروق للكثيرين. ولكن ورود هذه الإقتراحات من شخص يحظى بالثقة والاحترام سيجعل الناس أكثر تقبلاً لها.
على اعتبار السياسات الداخلية في الشركات والطريقة التي تعمل بها هذه الشركات بشكل عام، بينبغي إلى القائد التقني أن يمتلك شخصية قوية للغاية، عليه أيضاً أن يستخدم البريد الإلكتروني كأداة أساسية للتواصل وأن يتجنب التعاطف مع طرف ما دون الآخر. لن أستخدم هنا كلمة (تحيز) لأنها قد تفسر بوجود طرفين مختلفين - داخل الشركة وخارجها، وهو ما ينبغي تجنبه بأي ثمن. يحصل هذا القائد التقني على راتبه من الشركة لقاء عمله في تطوير المصادر المفتوحة، وهو يعرف تمام المعرفة مثله مثل الآخرين أنه لا يحصل على هذا الراتب لقاء تفاهمه مع زملائه في العمل داخل الشركة وإنما لإنجاز المشروع المناط به. وهناك بعض الخطورة في كون هذا القائد التقني مقرباً جداً من الشركة، فقد يثق زملاؤه بقراراته التفنية فقط دون قراراته الإدارية.
هل هناك سياسي في مكان ما؟
يبدو الموضوع على الشكل التالي: "إبحثوا لي عن شخص موثوق واحد!"
ولذلك فقد تجنبت لسنوات الانخراط ضمن شركات لينكس التجارية، وهو ما يزداد أهمية هذه الأيام مع ازدياد العوائد المادية للمصادر المفتوحة، فبوجود الكثير من الدولارات التي تنهال عليك من كل حدب وصوب، سيبدي الكثيرون تخوفاتهم من دوافعك الحقيقية. بالنسبة لي، فقد كان من الأهمية بمكان أنني عرفت بحياديتي في هذا السياق، ولا يمكنك تصور أهمية الحفاظ على هذه الحيادية بالنسبة لي، إنني أبذل قصارى جهدي!
معك حق، ينبغي أن أتوقف عن إلقاء المحاضرات، فالمصادر المتوحة ليست بالتأكيد الحل الأنجع لكل الناس أو كل المشاريع أو كل الشركات. ولكن ومع تزايد عوائد نجاح لينكس فإن الناس سرعان ما سيدركون أن المصادر المفتوحة ليست مجرد فكرة سامية لمجموعة من الطلاب المتطرفين في قناعاتهم.
لنتيح كل شيء، وسرعان ما سنلحظ الإحتمالات اللامحدودة. لقد تحدثت كثيراً عن المصادر المفتوحة لأن الصحفيين كانوا يسألونني عنها خلال السنوات الخمس الماضية، وكان يبدو على الدوام أن عليك أن تشرح وتشرح كل ما هو رائع في المصادر المفتوحة مراراً وتكراراً. وبصراحة، كنت أحس وكأنني أسير في طابور بلا نهاية، وكأنني أغطس في الوحل.
أما اليوم، فقد أصبح الناس مدركين حقاً لأهمية المصادر المفتوحة.
هذا المثال يوضح بشكل كبير المزايا اللامحدودة التي يمكن أن نجنيها من فلسفة المصادر المفتوحة. فعلى الرغم من أن الحواسيب الشخصية لم تتطور تبعاً لنموذج تطوير المصادر المفتوحة، إلا أنها تعتبر مثالاً لتقنية مفتوحة أتيح لأي شخص أو شركة استنساخها وتطويرها وبيعها. يتيح نموذج تطوير المصادر المفتوحة في أوضح أشكاله لأي شخص أن يساهم في تطوير مشروع ما أو استثماره تجارياً. ويتضح جلياً أن لينكس يشكل المثال الأفضل لما نحن بصدده الآن, فالبرنامج الذي تم تطويره في غرفة نومي الفوضوية في هلسنكي قد نمى ليصبح أكبر مشروع تعاوني مشترك في تاريخ البشرية.
لقد بدأت هذه الحركة كفكرة مشتركة بين مطوري البرمجيات المؤمنين بضرورة إتاحة الشيفرة المصدرية للبرامج الحاسوبية بحرية مطلقة، متخذين من رخصة الاستخدام العمومية General Public License ـ (GPL) أداتهم الفاعلة.
تطورت هذه الفكرة لتصبح وسيلة التطوير المستمر لأفضل التقنيات، ومن ثم تطورت لتحظى بقبول واسع النطاق في أسواق العالم، وهو تماماً ما حصل في الأثر المشابه لتضخم كرة الثلج في اعتماد نظام التشغيل لينكس في مخدمات الوب غبر العالم، وفي العوائد السخية التي حققها للشركات التي أخذت زمام البادرة وتبنت لينكس كالمصدر الأساسي لجني الأرباح.
إن ما بدأ كفكرة أثبت نجاعته كتقنية ونجح في الأسواق التنافسية في العالم. والآن تتطور المصادر المفتوحة إلى ما وراء النواحي التقنية والتجارية، حيث يقوم البروفيسور لاري ليسيغ وتشارلز نيسون في جامعة هارفارد للقانون بنقل فلسفة المصادر المفتوحة إلى عالم القانون عندما أطلقا مشروع القانون المفتوح Open Law Project والذي يعتمد على متطوعين حقوقيين وطلاب في كليات الحقوق بإرسال الأبحاث والآراء إلى موقع المشروع على الإنترنت للمساهمة في تطوير المرافعات والإعتراضات على مشروع الولايات المتحدة لتوسيع حقوق الملكية الفكرية. الفكرة الأساسية وراء المشروع تكمن في أن أكثر المرافعات قوة ستتطور عبر مساهمة أكبر قدر ممكن من المفكرين الحقوقيين في هذا المشروع، إضافة إلى تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات عبر مساهمات هؤلاء المفكرين ضمن الموقع. يحاول هذا الموقع بيان المحور الأساسي الذي يميزه عن الأسلوب التقليدي:
"سنتوقع أن نعوض ما سنخسره نتيجة التخلي عن السرية في أعمالنا بما سنحصل عليه من قوة في المرافعة وعمق في مصادر المعلومات"..
(أو بمعني آخر: بوجود مليون مراقب ستختفي مشاكل البرمجيات بسرعة فائقة).
ويصح طبعاً تطبيق ذلك على أساليب إجراء البحث العلمي منذ القدم، وعلى أكثر من جانب، لنتخيل مثلاً كيف يمكننا هذا الأسلوب من تسريع تطوير علاجات الأمراض، أو كيف يمكن عبر استثمار أفضل المفكرين أن تتطور السياسية الدولية. مع تحول العالم أكثر فأكثر إلى قرية صغيرة فإن إيقاع الحياة والعمل سيزداد كثافة، ومع توافر التقنية والمعلومات سيجد الناس أكثر فأكثر أن الأسلوب التقليدي في إخفاء المعلومات آخذ في التلاشي وبسرعة فائقة.
إن النظرية الكامنة وراء فلسفة المصادر بسيطة للغاية، ففي حالة نظام التشغيل فإن الشيفرة المصدرية – مجموعة التعليمات البرمجية التي تشكل هذا النظام – متاحة بحرية، وبإمكان أي كان تطويرها أو تعديلها أو استثمارها. ولكن هذه التطويرات والتعديلات يجب أن تتاح أيضاً بحرية للآخرين. أي أن المشاريع في عالم المصادر المفتوحة ليست ملكاً لأحد وفي نفس الوقت ملك للجميع، عندما يتم إطلاق مشروع ما يستقطب هذا المشروع الكثير من جهود التطوير والتحديث، ومع إسهام العديد من فرق المطورين في العمل بالتوازي فإن النتائج ستتحقق بسرعة أكبر ونجاح أفضل فيما لو تم هذا التطوير وراء أبوب موصدة.
وهو بالتمام ما شهدناه في لينكس، تخيل أنه عوضاً عن وجود فريق تطوير صغير منغلق يعمل بالسر فإنك يملك جيشاً مؤلفاً من الملايين من أفضل الأدمغة حول العالم يسهمون في تطوير مشروع ما، ويقومون على الدوام بمراجعة مساهمات بعضهم بعضاً ضمن آلية لا مثيل لها.
يتعجب معظم الناس عند سماعهم عن فلسفة المصادر المفتوحة للمرة الأولى، وهو ما تعزى إليه على الأغلب السنوات التي تطلبها انتشار هذه الرسالة على ما هي عليه الآن. من المؤكد أن المصادر المفتوحة لم تنتشر بسبب الفكرة المجردة لذاتها، فقد بدأت المصادر المفتوحة بلفت الانتباه عندما أصبح جلياً بأنها الطريقة الأمثل لتطوير أعلى نوعيات التقانة. والآن نشهد انتشار المصادر المفتوحة في عالم الأعمال أيضاً (وهو ما ساهم أيضاً بدوره في توسيع قاعدة تقبل المصادر المفتوحة) فقد أنشئت شركات عدة بالاعتماد على خدمات القيمة المضافة المتاحة في فلسفة المصادر المفتوحة، أو عبر الاعتماد على المصادر المفتوحة كوسيلة لزيادة شعبة تقنية ما. عندما يتحدث المال، يقتنع الناس!
من أكثر جزئيات فلسفة المصادر المفتوحة جدلاً التساؤل الذي يطرحه الكثيرون: ما الذي يدعو هذا العدد الهائل من المبرمجين الموهوبين للعمل دون مقابل؟ وهنا لا بد لنا من ذكر مفهوم (الحوافز)، ففي مجتمع يعتبر فيه تأمين الحاجات الأساسية للإنسان مضموناً إلى حد ما، فإن المال يفقد قيمته كأكثر الحوافز أهمية، ومن المعروف أن الإنسان يعطي أفضل ما لديه عندما يكون مدفوعاً بهاجس تحقيق حلم ما، عندما يحصل على المتعة الحقيقية. وهو ما ينطبق على مهندسي البرمجيات كما ينطبق على الفنانين والنحاتين والمبدعين. تتيح فلسفة المصادر المفتوحة للناس أن يعيشوا أحلامهم، أن يحصوا على المتعة الحقيقية التي يبتغون، وأن يعملوا مع أفضل المبرمجين في العالم، وليس فقط تلك القلة التي حصل وتم توظيفها ضمن الشركة التي يعملون فيها. يعمل مطوروا المصادر المفتوحة جاهدين لكسب احترام نظرائهم، وهو ما أثبت أنه من أكثر الحوافز الإنسانية فاعليةً.
يبدو أن بيل غيتس لم يتمكن من فهم هذه الفكرة، ومن الجائز أنه خجل الآن من سؤال أدلى به في عام 1976 عندما تساءل في رسالة إلى مطوري برمجيات المصادر المفتوحة: "أي أنك ستحول دون تطوير برمجيات جيدة، من يستطيع العمل بشكل محترف دون مقابل؟".
في الحقيقة، يمكننا فهم فلسفة المصادر المفتوحة بالعودة إلى الكيفية التي تعاملت بها الديانات مع العلوم منذ عدة قرون خلت، فقد نظر بعض رجال الدين إلى العلوم ككائن خطر ومضاد للمنظومة – تماماً كما تنظر بعض شركات صناعة البرمجيات أحياناً إلى المصادر المفتوحة. وكما أن العلوم لم تهدف يوماً إلى التقليل من شأن المنظومات الدينية، فإن المصادر المفتوحة لم تتطور بغاية أذية منظومة تطوير البرمجيات، لقد تطورت لإنتاج أفضل تقنية، وهو هدفها الأساس حتى يومنا هذا.
لا تنتج العلوم بحد ذاتها أموالاً، بل كانت (وما زالت) الآثار الجانبية لهذه العلوم المصدر لثروات العالم، والأمر نفسه ينطبق على المصادر المفتوحة، فهي تتيح بناء صناعات ثانوية تتحدى الشركات الحالية، تجد مثلاً شركات صغيرة مثل VA Linux تستثمر فلسفة المصادر المفتوحة لتصبح فجأة قادرة على منافسة كبريات الشركات التقليدية، مطبقين ما قاله قال السير إسحق نيوتن: (بالوقوف على أكتاف العمالقة).
وكلما ازداد انتشار المصادر المفتوحة في الاقتصاد العالمي، وكلما تعاظمت سمعة مطوريها، كلما ازدادت قيمة هؤلاء المطورين في سوق التوظيف.
عادة ما تبحث الشركات ضمن قوائم المطورين المرفقة مع برمجيات المصادر المفتوحة لتحديد أكثر المساهمين نشاطاً لتوعز فيما بعد إلى قسم إدارة الموارد البشرية لديها لإغراء هؤلاء للعمل لديهم بشتى الوسائل. وقد قلت في فقرة سابقة بأن المال قد يفقد قيمته كحافز أساسي، وأنا ما زلت عند كلامي، ولكنني سأقول بأن المال ليس بحد ذاته سيئاً فيما لو حصلت عليه مقابل العمل الجاد. وتبدو أهميته جلية عندما أضطر مثلاً لملء سيارتي ال BMW بالوقود!
وكما في العلوم، فإن الآثار الجانبية للمصادر المفتوحة غير محدودة، فهي تبني أشياء كانت تعتبر حتى عهد قريب مستحيلة، وتفتح آفاق أسواق جديدة لم نكن حتى لنتنبأ بوجودها! مع لينكس، كما في جميع مشاريع البرمجيات مفتوحة المصدر الأخرى، تستطيع الشركات بناء اصداراتها الخاصة وتعديلاتها الخاصة، وهو ما يعتبر مستحيلاً بأية طريقة أخرى. من الممتع أن نلحظ أن جميع ما قد تم عمله باستخدام لينكس تقريباً لم يكن متوقعاً حتى في أبعد تقديراتنا عندما بدأنا. لينكس الآن يشهد انتشاراً منقطع النظير في الصين، في السابق، غالباً ما كان يقتصر تطوير البرمجيات في آسيا على ترجمة البرمجيات الأوروبية أو الأمريكية، أما الآن يقوم أصدقاؤنا في تلك البقعة من العالم باستخدام لينكس لتطوير برمجياتهم الخاصة. وأنا فخور بالفعل بالشخص الذي اقترب مني في معرض كومدكس ليريني مضخة وقود تعمل بنظام التشغيل لينكس لأنه أراد أن يضمنها متصفحاً للإنترنت ليستطيع الزبائن تصفح موقع CNN.com مثلاً أثناء الدقائق التي سينتظرون خلالها ملء خزانات سياراتهم بالوقود. الوقوف على أكتاف العمالقة!
من المشجع أن نجد أناساً يستخدمون تقنيات مثل لينكس لمجرد بناء مضخة وقود أفضل، ومن المؤكد أن إبداعاً بهذا الشكل ما كان ليرى النور فيما لو كان لينكس نظاماً مغلقاً، فإذا ما كنت تملك شركة تقوم بتسويق لينكس فإنك على الأرجح ستسلك الطريق البديهي والذي يشكل حالياً سوق المخدمات أو محطات العمل المتطورة. أما المصادر المفتوحة عامةً فإنها تتيح للشركات اتخاذ قراراتها الخاصة فيما يتعلق بما يريدون عمله. ولذلك فإننا نجد لينكس في الأجهزة المدمجة، ونجد أجهزة مثل Tivo تستخدم لينكس، Web Slate من ترانسميتا (وهي الشركة التي يعمل فيها لينوس حالياً) والأنظمة الهاتفية تعمل بلينكس. ولذلك فإننا نلحظ ثروات تقدر ببلايين الدولارات نتجت عن استثمار المصادر المفتوحة.
وذلك يشبه ترك الأرض تعتني بنفسها, فإذا لم نتحكم في التقنية فإننا نزيل الحدود أمام استخداماتها, فبإتاحة التقنية نتيح للأشخاص اتخاذ قراراتهم الخاصة – لاستخدامها كمنصة إطلاق لمنتجاتهم وخدماتهم. وعلى الرغم من أن غالبية هذه القرارات ليست ذات شأن في المفهوم الأوسع للأشياء، إلا أنها بالتأكيد تعمل بشكل جيد. وهذا يعني أن لا نحاول نشر لينكس، بل أن نجعله متاحاً وندعه ينشر نفسه بنفسه. ما نقوله لا ينطبق على لينكس وحسب، بل على أي مشروع مفتوح.
ستنجح المصادر المفتوحة ..
لا أحد يناقش أهمية حرية التعبير, فهي حرية بذل الكثيرون دماءهم ثمناً لها, فالحرية دوما أمر ثمين عليك أن تدافع عنه بحياتك، ولكنها أيضاً ليست بالخيار السهل للوهلة الأولى. وكذلك الأمر بالنسبة للمصادر المفتوحة، عليك أن تتخذ القرار بأن تتبنى هذه الفلسفة، وهو ما قد يبدو صعباً للغاية لأول وهلة، ولكنه سيجعلك أكثر ثباتاً في النهاية.
لنفكر قليلاً بالسياسة، إذا تم استخدام نفس المنطق المستخدم في مواجهة المصادر المفتوحة في الشؤون الحكومية علينا إذاً أن نتقبل دوماً حكم الحزب الواحد. من المؤكد أن حكم الحزب الواحد أبسط بكثير من التعددية الحزبية في النظام السياسي المفتوح المتبع في معظم دول العالم, ففي نظام الحزب الواحد لن نعاني من مشاكل التفاهم مع الأطراف الأخرى، بدعوى أن أوقات الحكومة أكثر أهمية من أن تنفق على جدالات يفرضها النظام السياسي المفتوح. ولسبب مجهول يؤمن البعض بضرورة تطبيق هذه المبادئ في عالم السياسة والحكومة، ويرفضونها في عالم الأعمال.
تملك معظم الشركات ذخيرة من المبررات التي تدعي بموجبها أنها غير قادرة على إتاحة تقنياتها، بعضها مقنع، كأن تقول لك الإدارة: لا تجري الأمور هكذا عادة! هذا الأمر مخيف للغاية، فالناس يخافون التغيير، ويعود ذلك جزئياً إلى جهلهم بنتيجة هذا التغيير، وغالبية الشركات تفضل الاصطفاف في مؤخرة طابور الانتظار مقنعة نفسها أنها بذلك ستتخذ قرارات أكثر حكمة حول وجهتها المستقبلية، وأحياناً يبدو ذلك أكثر أهمية من أن تحقق الشركة نجاحاً مبهراً. هذه هي الشركات التي من الممكن أن تصبح ناجحة عوضاً عن أن تكون من الممكن أن تصبح فعلاً، فعلاً، فعلاً ناجحة!
إن اتخاذ قرار بتحويل منتج ما إلى منتج مفتوح المصدر ليس بالأمر السهل مطلقاً، فهناك الكثير من الأمور المعقدة، فقد قامت الشركة خلال الأشهر أو السنوات التي استغرقها تطوير هذا المنتج ببناء كم هائل من المعرفة ضمن الشركة، هذه الملكية الفكرية تعتبر حجر الأساس في إيرادات الشركة المستقبلية، ولن تقوم الشركة بأي حال بالاستغناء عن هذه الملكية الفكرية التي تبقيها على قيد الحياة. ولكن وجود هذه المعرفة ضمن الشركة يبني حواجزاً في وجه الآخرين، فهو يمنع الأشخاص من خارج الشركة من المساهمة في تطوير هذه المعرفة.
إلا أنني شهدت شركات تتحول من منتجات مغلقة إلى منتجات مفتوحة المصدر، هناك على سبيل المثال شركة Wapit الفنلندية التي تقوم بتوفير خدمات ودعم البنية التحتية للعديد من أجهزة الاتصال التفاعلية. يتمحور هذا المشروع حول مخدم الوب المشابه لجهاز الهاتف الحائطي والذي تنتجه الشركة. من وجهة نظر الشركة فإن إتاحة برمجياتها ضمن مفهوم المصادر المفتوحة كان القرار السليم، فالشركة تريد بناء خدماتها، ولكن في سبيل ذلك عليها بناء بنيتها التحتية أولاً، وهو ما سيتطلب كتابة الكثير من البرمجيات. ولذلك، وعوضاً أن تنظر الشركة إلى هذا القرار باعتباره إتاحة لملكيتها الفكرية للآخرين، نظرت إليه من وجهة النظر التالية: سيستهلك تطوير البرمجيات التي سنحتاجها الكثير من وقت مهندسينا، ولكنه في النهاية لن يضيف أية قيمة فيما لو احتفظنا به ضمن الشركة.
لقد ساعدت عدة عوامل Wapit على اتخاذ قرارها، فالمشروع لم يكن مشروعاًً ضخماً للغاية، كما أن قرار التحول إلى المصادر المفتوحة اتخذ في مرحلة مبكرة من حياة الشركة. وقد صرحت إدراة الشركة أنها تملك جميع الموارد اللازمة لتطوير منتجها، ولكنها كانت تطمح إلى تطوير شيء أكثر شأناً من ذلك الذي يمكن تطويره ضمن الشركة. كما اعتبرت أن استخدام فلسفة تطوير المصادر المفتوحة سيتيح استخدام تقنية WAP كمعيار يستثمره الآخرون أيضاً.
منذ البدء، استشارتني الشركة بهذا الخصوص وأجبتهم أن عليهم في البداية أن يتجنبوا اتخاذ قراراتهم داخلياً ضمن الشركة فقط، واقترحت عليهم أنه في حال قاموا بعقد اجتماعات لاتخاذ القرار فإن هذه الاجتماعات لا ينبغي أن تكون مغلقة في وجه الآخرين من خارج الشركة. فإذا اعتبرت الشركة اجراءات اتخاذ القرار أمراً خاصاً بالشركة وحدها فإنها ستخاطر باستبعاد الآخرين، والذين قد لا يغفروا للشركة هذا الأسلوب من التعامل.وتعتبر هذه المشكلة من أهم المشاكل التي تواجه إطلاق واعتماد مشروع مفتوح المصدر في بيئة تجارية، من السهل أن نتشدق بعبارات تبدي دعمنا للمصادر المفتوحة، ولكن ذلك قد يقسم المجتمع دون قصد إلى جزئين: نحن في مواجهة هم. يتم اتخاذ العديد من القرارات بسهولة، أثناء الجلوس حول طاولة المقهى ومناقشة الخيارات المتاحة دون إتاحة هذا النوع من الحوار للأشخاص خارج الشركة. وبذلك نكون قد حرمنا الأشخاص خارج الشركة والذين غالباً ما قد يملكون آراءً ذات شأن من حقهم في التصويت لمجرد اتخاذنا لقراراتنا على طاولة المقهى!
لقد كانت هذه المشكلة إحدى المشاكل التي أربكت نتسكيب Netscape في الأشهر التي تلت قرار الشركة الصعب في عام 1998 بإتاحة الشيفرة المصدرية (والتي أسميت موزيلا Mozilla) للإصدار الجديد من متصفح الإنترنت الخاص بها. فقد استغرق وصول المشروع إلى الصيغة التي كان من الممكن أن تعتبر بحق مفتوحة المصدر الكثير من الزمن. فقد وجد معسكر ضمن نتسكيب يرفض إضافة أية تطويرات خارجية إلى المتصفح، فالجميع ضمن الشركة يعرف بعضهم بعضاً، وفي حال لم يكونوا جالسين إلى طاولة في المقهى يتخذون قراراتهم فإنهم غالباً ما كانوا يتجمعون في المقهى(الإفتراضي) والذي يهدف بشكل رئيس إلى الحفاظ على التواصل بين أعضاء الفريق. وعوضاً من استثمار أول تجربة عظيمة في إتاحة الشيفرة المصدرية لمنتج تجاري فإن نتسكيب حصلت في المقابل على عدة تغطيات صحفية سلبية لتجربتها. وعندما بدأ الكلام يتزايد عن احتمال فشل هذه التجربة، لم تعد نتسكيب قادرة على التحمل مما ساعد في جعلها أكثر انفتاحاً على الخارج وهو ما أدى بدوره إلى تحريك المشروع ليصل إلى صيغته الديناميكية الحالية.
عندما سمع الناس للمرة الأولى باحتمال إتاحة الشيفرة المصدرية لمنتج تجاري بدأوا يطرحون الأسئلة ذاتها: كيف سيتحمل الأشخاص ضمن الشركة حقيقة أن شخصاً ما من خارج الشركة سيقوم بإنجاز عمل ما بشكل أفضل من عملهم هم؟ وخصوصاً ضمن الانتشار الواسع لهذه المعلومات كونها مفتوحة المصدر؟ أعتقد أن عليهم أن يشعروا بالسعادة لذلك، وخصوصاً أنهم يحصلون على رواتبهم دون القيام بمعظم العمل. وفي هذا السياق فإن المصادر المفتوحة – أو أي شيء مفتوح – لن يرحم أحداً، فهو يظهر بوضوح من يستطيع إنجاز العمل ومن هو الأفضل! لم يعد بمقدور أحد أن يحتمي بمدرائه بعد اليوم!
تعتبر المصادر المفتوحة أفضل وسيلة لاستثمار المواهب الخارجية، ولكن الشركة ما زالت بحاجة إلى شخص ما في الداخل لمتابعة احتياجات ومتطلبات الشركة، ولا ينبغي أن يكون هذا الشخص بالضرورة مدير المشروع، عملياً، من الأفضل للشركة أن يقوم شخص من خارجها بهذه المهمة مجاناً. جيد أن يقوم شخص ما من خارج الشركة بعمل أفضل، وكلن المشكلة تكمن في أن هذا الشخص قد يقود المشروع في اتجاه لا يتوافق ومتطلبات الشركة، ولذلك ينبغي أن تعتني الشركة بمتطلباتها الخاصة. قد تسمح إتاحة المشروع للشركة بتخفيض مواردها الخاصة، ولكن ذلك لا يعني أنها ستستطيع التخلص منهم نهائياً. قد ينمو المشروع ليصبح أكبر بكثير من أن تقوم به شركة واحدة. إن وجود الموارد الخارجية يسمح ببناء نظام أرخص، أكثر كمالاً وأكثر توازناً، ولكن تبقى المشكلة: النظام الذي نمى بقوة لا يأخذ بعين الاعتبار متطلبات الشركة وحسب، بل قد يأخذ بعين الاعتبار أيضاً متطلبات الزبائن.
قد يكون أكثر الأمور صعوبة في هذا السياق هو التخلي عن التحكم وقبول حقيقة أن أشخاصاً من خارج الشركة قد يملكون معلومات أفضل، من الصعوبات الأخرى أيضاً إيجاد قائد تقني ضمن الشركة لتوجيه المشروع، هذا القائد يجب أن يتمتع بثقة الجميع على المستويين: التقني والسياسي، كما ينبغي أن يكون قادراً أحياناً على الاعتراف بأن المشروع لم يكن قراراً صائباً منذ البداية، وعوضاً عن محاولة التهرب من الحقائق، أن يكون قادراً على إقناع الجميع بأن القرار الأصح هو العودة والبدء إلى نقطة البداية والبدء من جديد، وهو ما قد يعني التخلي عن أشياء تم إنجازها، ما قد لا يروق للكثيرين. ولكن ورود هذه الإقتراحات من شخص يحظى بالثقة والاحترام سيجعل الناس أكثر تقبلاً لها.
على اعتبار السياسات الداخلية في الشركات والطريقة التي تعمل بها هذه الشركات بشكل عام، بينبغي إلى القائد التقني أن يمتلك شخصية قوية للغاية، عليه أيضاً أن يستخدم البريد الإلكتروني كأداة أساسية للتواصل وأن يتجنب التعاطف مع طرف ما دون الآخر. لن أستخدم هنا كلمة (تحيز) لأنها قد تفسر بوجود طرفين مختلفين - داخل الشركة وخارجها، وهو ما ينبغي تجنبه بأي ثمن. يحصل هذا القائد التقني على راتبه من الشركة لقاء عمله في تطوير المصادر المفتوحة، وهو يعرف تمام المعرفة مثله مثل الآخرين أنه لا يحصل على هذا الراتب لقاء تفاهمه مع زملائه في العمل داخل الشركة وإنما لإنجاز المشروع المناط به. وهناك بعض الخطورة في كون هذا القائد التقني مقرباً جداً من الشركة، فقد يثق زملاؤه بقراراته التفنية فقط دون قراراته الإدارية.
هل هناك سياسي في مكان ما؟
يبدو الموضوع على الشكل التالي: "إبحثوا لي عن شخص موثوق واحد!"
ولذلك فقد تجنبت لسنوات الانخراط ضمن شركات لينكس التجارية، وهو ما يزداد أهمية هذه الأيام مع ازدياد العوائد المادية للمصادر المفتوحة، فبوجود الكثير من الدولارات التي تنهال عليك من كل حدب وصوب، سيبدي الكثيرون تخوفاتهم من دوافعك الحقيقية. بالنسبة لي، فقد كان من الأهمية بمكان أنني عرفت بحياديتي في هذا السياق، ولا يمكنك تصور أهمية الحفاظ على هذه الحيادية بالنسبة لي، إنني أبذل قصارى جهدي!
معك حق، ينبغي أن أتوقف عن إلقاء المحاضرات، فالمصادر المتوحة ليست بالتأكيد الحل الأنجع لكل الناس أو كل المشاريع أو كل الشركات. ولكن ومع تزايد عوائد نجاح لينكس فإن الناس سرعان ما سيدركون أن المصادر المفتوحة ليست مجرد فكرة سامية لمجموعة من الطلاب المتطرفين في قناعاتهم.
لنتيح كل شيء، وسرعان ما سنلحظ الإحتمالات اللامحدودة. لقد تحدثت كثيراً عن المصادر المفتوحة لأن الصحفيين كانوا يسألونني عنها خلال السنوات الخمس الماضية، وكان يبدو على الدوام أن عليك أن تشرح وتشرح كل ما هو رائع في المصادر المفتوحة مراراً وتكراراً. وبصراحة، كنت أحس وكأنني أسير في طابور بلا نهاية، وكأنني أغطس في الوحل.
أما اليوم، فقد أصبح الناس مدركين حقاً لأهمية المصادر المفتوحة.
من كتاب لينوس تورفالدز: «للمتعة فقط»
ترجمة: محمد أنس طويلة
ترجمة: محمد أنس طويلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق